31/08/2022

قبل السادسة صباحا

 الغاية من خلق الإنسان

كتاب الله لم يجعل هذه القضية عائمة، أو محتملة، أو نسبية، بل حسمها بشكل يقيني واضح وصريح، وكشف الغاية من خلق الإنسان بلغة حاصرة، فقال سبحانه وتعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: ٥٦] وما سوى ذلك هي أهداف يجب أن نضعها نحن كمسلمين في مسار يمضي نحو الغاية التي خلقنا الله من أجلها لذلك كان لزامن أن تكون الأدوات والوسائل المستخدمة لتحقيق الأهداف ضمن المباح في شريعتنا الإسلامية حيث الغاية لا تبرر الوسيلة المحرمة.

وبتدبر كتاب الله سبحانه وتعالى نجد أن الحضارة والتمدن والعلوم الدنيوية بتعريفاتها المادية ليست المقصود الأولوي بحسن العمل؛ لذلك أرسل الله الرسل في التاريخ البشري لأمم أثبت الله سبحانه وتعالى  تمیُّزها في عمارة الأرض وعمق علمها بالدنيا، كما قال سبحانه عن الأمم السابقة : {كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها}[الروم: ۹]

وقال عن علمهم المدني على سبيل الذم يصف حالتهم في نظرتهم القاصرة إلى الدنيا : {يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا} [الروم: 7]

وفي القرآن بيان جلي لوظيفة النبوات والكتب السماوية والشرائع، وأنها كلها تهدف التأكيد على عبادة الله، والاستعداد للحياة المستقبلية بعد الموت، وليست المنافسة العالمية في المدنية والحضارة الدنيوية كما قال سبحانه وتعالى عن وظيفة الرسل {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: ٣٦].

وذكر سبحانه وتعالى السؤال الإلهي عن تحقيق هذه الغاية فقال {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا} [الأنعام: ١٤٤].

وقال سبحانه وتعالى مُبيِّنًا وظيفة الشرائع {وما أُمُروا إلا ليعبدوا الله} [البينة: ٥].

بكل وضوح وصراحة، وبلا مجاملة ولا مداورة ولا التفاف.. الحضارة بالمعنى الشائع والتي هي العلوم المدنية والدنيوية لخلق الرفاه البشري هي قيمة ذات مرتبة تبعية في الوحي الإلهي، وليست الغاية، ولا الأولوية الرئيسية، أو القضية المركزية، كما نحب أن نتظاهر بذلك.

أعلم أن هذا الأمر يزعج الكثيرين، بل يؤلمهم؛ لأنهم يريدون بالكثير من حُسن النية كسب تعاطف النخب المثقفة تجاه الإسلام، لكن هذه هي الحقيقة.

إننا يجب أن نكسب انتماء الناس إلى الإسلام والقرآن والنبي محمد كما هم في ذاتهم، أي : كما كانوا فعلا، لا كما جعلناهم نحن عبر عمليات إعادة التصنيع والتشكيل طبقا لميول المستهلك، الإسلام في نسخته الحقيقية الصادقة، لا الإسلام الذي يميل إلى سماعه المخاطبون، النبي محمد -صلوات الله عليه- كما عاش فعلا بين حرَّات طابة، لا صورة النبي المصممة للذوق الفرانكفوني.

لذلك؛ كان وسيظل ينبوع الانحراف الثقافي - بكل أختصار - الانبهار بالمظاهر المادية من عمران ومدنية وحضارة دنيوية مادية، والزهد في مضامين الوحي من العلوم الإلهية وحقائق الإيمان والغيبيات ومعاملة الله سبحانه وتعالى.

كثيراً ما يشير القرآن إلى أن كل ما على هذه البسيطة من موارد وإمكانات ليس المراد بها رفاه الجنس الإنساني، وإنَّما المراد بها ابتلاء الناس وامتحانهم هل يؤمنون ويقبلون على الله، أم يعرضون عنه؟ كما قال سبحانه وتعالى {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلً} [الكهف: ٧].

وكشف سبحانه وتعالى عن وظيفة المعايش المدنية والتمكين السياسي، فقال سبحانه وتعالى {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: ١٠].

بل ويشير سبحانه وتعالى إلى عظمة هذا التمكين المدني وعمقه، فيقول سبحانه و تعالى {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: ٢٦].

فانضر كيف عرض الله المعايش المدنية باعتبارها نعمة من الله لابتلاء الناس، لا أنِّها هي المطلب الشرعي الرئيس، ثم يؤكد على الغاية الشعائرية والحسبوية من نعمة التمكين السياسي في موضع اخر ، فيقول {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: ٤١].

وحين يعرض الله الصورة الراقية للمؤمن يؤكد أنَّه ذلك الرجل الذي لا يشغله النشاط الاقتصادي عن الغاية الحقيقة العبادية، وأنَّ الدنيا في يده لا تعظيم لها في قلبه؛ لأنَّ نظره الحقيقي مربوط بلحظة لقاء الله، فيقول سبحانه وتعالى {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: ٣٧].

ينبه الله في مواضع كثيرة من الوحي على أن المنزلة والمكانة الحقيقية عند الله ليست بالمظاهر المدنية المادية، ولا بالإمكانيات الاقتصادية والديموغرافية، فقال له : {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى}. [سبأ: ۳۷]

وما ذلك كله إلا لتفاهة الممتلكات المادية في ميزان الله، فهل يا ترى ستكون موازیننا تابعة لميزانه سبحانه، أم ستكون لنا موازیننا الخاصة؟!

المرجع: مآلات الخطاب المدني

malat-alkhtab-almdny